الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو حيان: {قال أغير الله أبغيكم إلهًا وهو فضلكم على العالمين}.ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولًا بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانيًا أخبرهم بأن عبّاد الأصنام ليسوا على شيء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثًا أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلهًا أي {أغير} المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبودًا وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهًا غيره ومعنى {على العالمين} على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم، قال ابن القشيري: بإهلاك عدوهم وبما خصّهم من الآيات وانتصب {غير} مفعولًا بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله، {وإلهًا} تمييز عن {غير} أو حال أو على الحال {وإلهًا} المفعول والتقدير أبغي لكم إلهًا غير الله فكان غير صفة فلما تقدم انتصب حالًا، وقال ابن عطية: وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال انتهى، ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله إلهًا فإن تخيّل أنه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصحّ لأنّ الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير الله أبغيكموه لصحّ ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالًا وأن كون مستأنفًا. اهـ..قال أبو السعود: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها}.شروعٌ في بيانِ شؤونِ الله تعالى الموجبةِ لتخصيص العبادةِ به تعالى بعد بيانِ أن ما طلبوا عبادتَه مما لا يمكن طلبُه أصلًا لكونه هالكًا باطلًا، ولذلك وسّط بينهما قال مع كونِ كلَ منهما كلامَ موسى عليه الصلاة والسلام، والاستفهامُ للإنكار والتعجب والتوبيخِ وإدخالُ الهمزةِ على غير للإيذان بأن المنكَرَ هو كونُ المبْغيِّ غيرَه تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكارِ الاختصاصِ بغيره تعالى، وانتصابُ غير على أنه مفعولُ أبغي بحذف اللام أي أبغي لكم أي أطلب لكم غيرَ الله تعالى، وإلها تمييزٌ أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعولُ لأبغي على أن الأصلَ أبغي لكم إلها غيرَ الله فغيرَ الله صفةٌ لإلها فلما قُدّمت صفةُ النكرةِ انتصبت حالًا {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} أي والحالُ أنه تعالى خصكم بنعمٍ لم يُعطِها غيرَكم، وفيه تنبيهٌ على ما صنعوا من سوء المعاملةِ حيث قابلوا تخصيصَ الله تعالى إياهم من بين أمثالِهم بما لم يستحقوه تفضلًا بأن عمَدوا إلى أخسّ شيءٍ من مخلوقاته فجعلوه شريكًا له تعالى. تبًا لهم ولما يعبدون. اهـ..قال الألوسي: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغيكُمْ إلَهًا}.قيل: هذا هو الجواب وما تقدم مقدمة وتمهيد له، ولعله لذلك أعيد لفظ له: وقال شيخ الإسلام: هو شروع ف بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلًا لكونه هالكًا باطلًا أصلًا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام، وقال الشهاب: أعيد لفظ {قال} مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين، ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى، وفي إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين {ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات والأرض بخلقهن الله خفاء، والظاهر إقامته على التنويه كما لا يخفى، والاستفهام للإنكار وانتصاب {غير} على أنه مفعول أبغيكم وهو على الحذف والإيصال، والأصل أبغى لكم، وعلى ذلك يخرج كلام الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولًا به لأبغي وغير صفة له قدمت فصارت حالًا، وأيًا ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص، والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودًا {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} أي عالمي زمانكم أو جميع العالمين، وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقًا حتى يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة عقلية، والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار، أي والحال أنه تعالى خص التفضيل بكم فأعطاكم نعمًا لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة والمقابلة حيث قابلوا التفضل بالتفضيل والاختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته؛ وهذا الاختصاص مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه ما يفيد ذلك، وتقديم الضمير على الخبر لا يفيده وإن كان اختصاصًا آخر على ما قيل، أي هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم، وجوز أبو البقاء كون الجملة مستأنفة. اهـ..قال ابن عاشور: وإعادة لفظ {قال} مستأنفًا في حكاية تكملة جواب موسى بقوله تعالى: {قال أغير الله أبغيكم} تقدم توجيه نظيره عند قوله تعالى: {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو} إلى قوله: {قال فيها تحيون} من هذه السورة (24، 25).والذي يظهر أنه يعاد في حكاية الأقوال إذا طال المقول، أو لأنه انتقال من غرض التوبيخ على سؤالهم إلى غرض التذكير بنعمة الله عليهم، وأن شكر النعمة يقتضي زجرهم عن محاولة عبادة غير المنعم، وهو من الارتقاء في الاستدلال على طريقة التسليم الجدَلي، أي: لو لم تكن تلك الآلهة باطلًا لكان في اشتغالكم بعبادتها والإعراض عن الإله الذي أنعم عليكم كفران للنعمة ونداء على الحماقة وتنزه عن أن يُشاركهم في حماقتهم.والاستفهام بقوله: {أغير الله أبغيكم إلاهًا} للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلاهًا غير الله، وقد أوليَ المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلاهًا، فتقديم المفعول الثاني للاختصاص، للمبالغة في الإنكار أي: اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلاهًا.وهمزة {أبغيكم} همزة المتكلم للفعل المضارع، وهو مضارع بغَى بمعنى طلب، ومصدره البَغاء بضم الباء.وفعله يتعدى إلى مفعول واحد، ومفعوله هو {غيرَ الله} لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه.وتعديته إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال، وأصل الكلام: أبغي لكم و{إلاهًا} تمييز ل {غير}.وجملة: {وهو فضلكم على العالمين} في موضع الحال، وحين كان عاملها محَل إنكار باعتبار معموله، كانت الحال أيضًا داخلة في حيز الإنكار، ومقررة لجهته.وظاهر صوغ الكلام على هذا الأسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلومًا عندهم لأن ذلك هو المناسب للإنكار، ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق.ومجيء المسند فعليًا: ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيصه بذلك الخبر الفعلي أي: وهو فضلكم، لم تفضلكم الأصنام، فكان الإنكار عليهم تحميقًا لهم في أنهم مغمورون في نعمة الله ويطلبون عبادة ما لا يُنعم.والمرادُ بالعالمين: أممُ عصرهم، وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياءَ، وبأن منهم رسلًا وأنبياء، وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه، وبأنه جعلهم أحرارًا بعد أن كانوا عبيدًا، وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته، وبعث فيهم رسولًا ليقيم لهم الشريعة.وهذه الفضائِل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذٍ، ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم، وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذَ أصنام مثلهم، لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول، لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافًا بأنه أرجح رأيًا وأحسن حالًا، في تلك الناحية. اهـ..قال الشعراوي: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}.هم حينما قالوا لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، قال لهم أولًا: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، ثم قال: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وبعد ذلك رجع إلى الدليل على أن هذا طلب جهل، وأن الذين يعبدون الأصنام من دون الله إنما يفعلون باطلًا؛ فقال: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين}.وقوله: {أَغَيْرَ الله} أي أن الإِله الذي عرفتم بالتجربة العملية أنه فضلكم على العالمين ورأيتم ما صنع بعدوكم الذي استذلكم وسامكم سوء العذاب، إنه قد أهلكه ودمره، هل يمكن أن تطلبوا ربًّا غيره؟وقوله: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ} أي أأطلب لكم إلهًا غيره؟ وفي سؤاله هذا استنكار لأنه يتبعه بتفضيل الله لهم على العالم، ثم أراد أن يذكرهم بقمة التفضيل لهم فيقول سبحانه على لسان موسى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ...}. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {أغَيْرَ اللَّهِ}.الهمزةُ للإنكار، والتَّوبيخِ، وفي نَصْبِ غير وجهان: أحدهما: أنَّه مفعولٌ به لـ {أبْغِيكُمْ} على حذفِ اللاَّمِ، تقديره: أبغي لكم غير اللَّهِ، أي: أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف، وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاص، وفي إلهًا على هذا وجهان: أظهرهما: أنَّهُ تمييز لـ {غير}، والثاني: أنَّهُ حالٌ، ذكره أبو حيان وفيه نظر.والثاني: من وجهي {غير}: أنَّهُ منصوب على الحال من إلهًا وإلهًا هو المفعول به لـ {أببْغِيكُمْ} على ما تقرَّرَ صفةُ النَّكرةِ عليها نُصِبتْ حالًا.وقال ابنُ عطيَّة: و{غير} منصوبة بفعل مضمر، وهذا هو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يكون حالًا.وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل، أو سببه.قوله: {أبْغِيكُمْ} قال الواحديُّ.يقال: بَغَيْتُ فلانًا شيئًا وبغيتُ له.قال تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} [التوبة: 47] أي: يبغون لكم.والمعنى: أطلبُ لكم غير اللَّه معبودًا.قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ}.يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ، لاستئنافها. اهـ. باختصار..من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}.ذكَّرهم انفرادَه سبحانه بإنشائهم وإبداعهم، وأنه هو الإله المتفرد بالإيجاد، ونَبَّهَهُم أيضًا على عظيم نعمته عليهم، وأنه ليس حقُّ إتمام النعمة عليهم مقابلتَهم إياها بالتولِّي لغيره والعبادة لِمَنْ سواه. اهـ.
|